المملكة والمنعطف الثاني - 19 أبريل 2016

صحيفة المدينة

المملكة والمنعطف الثاني - 19 أبريل 2016

2021-10-11    595

في المحرم من سنة 1357هـ كانت المملكةُ العربية السعودية على موعدٍ مع التاريخ، مع النهضة، مع الحضارة، مع المستقبل.. وذلك حين تدفقت أول كمية كبيرة من البترولِ من بئر الدمام (7)، وذلك بعد خمسة عشر عامًا من توقيع أولِ امتياز للتنقيب عن البترول.. كانت تلك اللحظةُ الفارقةُ منعطفًا تاريخيًا في قصةِ (المملكة العربية السعودية) حيثُ مكنتْها الثروةُ النفطية من الانطلاقِ بسرعةِ البرق في مسيرةٍ نهضويةٍ باتتْ مضربَ المثلِ، وحديثَ العصرِ.
لم تكنْ عينُ القيادةِ وقتَها غافلةً عن طبيعة هذه الهبة الإلهية، وعن كونها ثروةً ناضبةً، ربما تنتهي يومًا ما، ولا حتى عن كونِها سلعةً خاضعةً لتقلباتِ الأسعارِ، ولكنّ واجب البناءِ يومئذٍ كان مقدمًا، واستثمار عطاءات هذا الذهب الأسود في تحقيق بنية تحتية قوية كان هو واجب المرحلة.
ومع ذلك فمنذُ ذلك الزمن البعيد وعين القيادة كانت تنظر إلى البدائل، وتؤمنُ بضرورة التنويع، وتشعر كذلك بضخامة المسؤولية وصعوبة العبءِ في هذا التحول، يدلك على ذلك أنَّ معالي وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق الأستاذ هشام ناظر (رحمه الله) قال في كلمة ألقاها في افتتاح بعض مشروعات سابك سنة 1984م: «والذين يظنون أنَّ ما فات كان سهلًا، أو أن ماهو آتٍ أسهلُ مما فات يخطئون، فالإثابة جائزة على قدر الكفاح. وعلى كل ما عاد يختلف اثنان على أن بلادنا لا تحتمل الاعتماد كليًا على تصدير البترول الخام ليستهلك كطاقة، فالعلم يتحول بتؤدة نحو مصادر بديلة، ولن يترك العلم بابًا في هذا الشأن إلا وطرقه، والذين لا يرون هذه الحقيقة اليوم سيكونون أول من يجوع غدًا؛ لأنهم يفوتون على أنفسهم فرصة تدريب عيالهم على صنعة منها يرتزقون، وعلى زراعة تقيهم الحاجة والسؤال».. هذه كلمةٌ قيلتْ قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وهي تكشفُ بوضوح عن وعي القيادةِ وأذرعها التنفيذية بحقيقة التحدي، وواجب المرحلةِ المقبلةِ.
ولقد جاءتْ الظروف الاقتصادية الحالية، وما طرأ على أسعار النفط من تقلباتٍ، وما نشأ من بدائلَ بدأت تشق طريقها، جاءتْ هذه الأحداث لتكون بمثابة الدافع المضاعف لتسريع جهود المملكة في تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفطِ، فانطلقتْ خطواتٌ جادةٌ وسريعة وحاسمة باتجاهِ إعادةِ هيكلةِ الدولةِ ومؤسساتها (تمويلًا) و(أداءً). فبات التوجه إلى تضخيم العوائد غير النفطية واضحًا، كما أصبح التعويل على مؤشراتِ الأداء في تقويم أداء مؤسسات الدولة قابَ قوسين أو أدنى من التطبيق.
في اعتقادي أن هذا التحوّل الحاسم والجاد نحو اقتصاد المعرفة وبدائل النفط يمثل (المنعطف التاريخيّ الثاني) في مسيرة المملكة، فإذا كان اكتشاف النفط قد قاد هذه البلاد المباركة في مرحلتها الأولى نحو الريادة، فإنّ هذا المسار من المؤمل أن يقودها في هذه المرحلة الثانية نحو ريادةٍ جديدةٍ تحفظُ لها مكانتها ومنزلتها وسيادتها وتأثيرها الإقليميّ والدوليّ.
يؤمنُ هذا المسار الجديد بضرورة (العمل) و(الحركة) و(الاعتماد على الذات) أي التعويل على الإنسانِ قبل التعويل على (الثروة المادية). فالإنسان يتجدد، وثروات الأرض تتبدد، الإنسانُ يعطي بلا حدود، وعطاء الأرض محدود.
يؤمن هذا المسار كذلك بضرورة التعويل على (اقتصاد المعرفة)، المعرفة التي صنعتْ بلدانًا كثيرةً لا تمتلك تحت أرضها ثرواتٍ كاليابان وكوريا وسنغافورة وتركيا، المعرفة التي تشكل عوائدها عالميًا أضعاف عوائد النفط والثروات المعدنية مجتمعة، المعرفة التي يمكنُ أن تباعَ مرارًا فيما لا تباعُ ثرورة الأرض إلا مرةً واحدةً.
إنّه كما أسلفتُ (المنعطف الثاني) لهذه البلادِ المباركة، وكلنا أمل أن يقودنا هذا المنعطف إلى مرحلة جديدةٍ أكثر خيرًا وبركةً وعطاءً وألقًا وحضارةً.  


مشاركة :